الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتصورهم للأمر على هذا النحو الآلي يشي بعدم إدراكهم لسنن الله في حياة العباد.فالله هو مطعم الجميع، وهو رازق الجميع. وكل ما في الأرض من أرزاق ينالها العباد هي من خلقه، فلم يخلقوا هم لأنفسهم منها شيئًا، وما هم بقادرين على خلق شيء أصلًا. ولكن مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد؛ وفلاحة هذه الأرض؛ وصناعة خاماتها؛ ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان. كما اقتضت أن يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكاملة في هذه الأرض. وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها، إنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخرى قد تحقق ضرورات أساسية لخلافة الجنس الإنساني في الأرض، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها!وفي خلال هذا الخضم الواسع لحاجات الخلافة ومطالبها، والمواهب والاستعدادات اللازمة لها، وما يترتب على هذه وتلك من تداول للمنافع والأرزاق، وتصارع وتضارب في الأنصبة والحظوظ.. في خلال هذا الخضم الواسع المترابط الحلقات لا في جيل واحد، بل في أجيال متعددة قريبة وبعيدة، ماضية وحاضرة ومستقبلة.. في خلال هذا الخضم تتفاوت الأرزاق في أيدي العباد.. ولكي لا ينتهي هذا التفاوت إلى إفساد الحياة والمجتمع، بينما هو ناشيء أصلًا من حركة الحياة لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، يعالج الإسلام الحالات الفردية الضرورية بخروج أصحاب الثراء عن قدر من مالهم يعود على الفقراء ويكفل طعامهم وضرورياتهم. وبهذا القدر تصلح نفوس كثيرة من الفقراء والأغنياء سواء. فقد جعله الإسلام زكاة. وجعل في الزكاة معنى الطهارة. وجعلها كذلك عبادة. وألف بها بين الفقراء والأغنياء في مجتمعه الفاضل الذي ينشئه على غير مثال.فقولة أولئك المحجوبين عن إدراك حكمة الله في الحياة: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}. وتطاولهم على الداعين إلى الإنفاق بقولهم: {إن أنتم إلا في ضلال مبين}. إن هو إلا الضلال المبين الحقيقي عن إدراك طبيعة سنن الله، وإدراك حركة الحياة، وضخامة هذه الحركة، وعظمة الغاية التي تتنوع من أجلها المواهب والاستعدادات، وتتوزع بسببها الأموال والأرزاق.والإسلام يضع النظام الذي يضمن الفرص العادلة لكل فرد، ثم يدع النشاط الإنساني المتنوع اللازم للخلافة في الأرض يجري مجراه النظيف. ثم يعالج الآثار السيئة بوسائله الواقية.وأخيرًا يجيء شكهم في الوعد، واستهزاؤهم بالوعيد:{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}.ووعد الله لا يستقدم لاستعجال البشر؛ ولا يستأخر لرجائهم في تأخيره. فكل شيء عند الله بمقدار. وكل أمر مرهون بوقته المرسوم. إنما تقع الأمور في مواعيدها وفق حكمة الله الأزلية التي تضع كل شيء في مكانه، وكل حادث في إبانه، وتمضي في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه وفق النظام المقدر المرسوم في إمام مبين.أما الرد على هذا السؤال المنكر فيجيء في مشهد من مشاهد القيامة يرون فيه كيف يكون، لا متى يكو.{ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون}.يسأل المكذبون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}. فيكون الجواب مشهدًا خاطفًا سريعًا.. صيحة تصعق كل حي، وتنتهي بها الحياة والأحياء:{ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون}.فهي تأخذهم بغتة وهم في جدالهم وخصامهم في معترك الحياة، لا يتوقعونها ولا يحسبون لها حسابًا. فإذا هم منتهون. كل على حاله التي هو عليها. لا يملك أن يوصي بمن بعده. ولا يملك أن يرجع إلى أهله فيقول لهم كلمة.. وأين هم؟ إنهم مثله في أماكنهم منتهون!ثم ينفخ في الصور فإذا هم ينتفضون من القبور. ويمضون سراعًا، وهم في دهش وذعر يتساءلون: {من بعثنا من مرقدنا}. ثم تزول عنهم الدهشة قليلًا، فيدركون ويعرفون: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}!ثم إذا الصيحة الأخيرة. صيحة واحدة. فإذا هذا الشتيت الحائر المذهول المسارع في خطاه المدهوش. يثوب: {فإذا هم جميع لدينا محضرون}. وتنتظم الصفوف، ويتهيأ الاستعراض في مثل لمح البصر ورجع الصدى. وإذا القرار العلوي في طبيعة الموقف، وطبيعة الحساب والجزاء يعلن على الجميع:{فاليوم لا تظلم نفس شيئًا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}.وفي هذه السرعة الخاطفة التي تتم بها تلك المشاهد الثلاثة تناسق في الرد على أولئك الشاكين المرتابين في يوم الوعد المبين!ثم يطوي السياق موقف الحساب مع المؤمنين، ويعجل بعرض ما صاروا إليه من نعيم:{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولًا من رب رحيم}.إنهم مشغولون بما هم فيه من النعيم، ملتذون متفكهون. وإنهم لفي ظلال مستطابة يستروحون نسيمها.. وعلى أرائك متكئين في راحة ونعيم هم وأزواجهم. لهم فيها فاكهة ولهم كل ما يشاءون؛ وهم ملاك محقق لهم فيها كل ما يدعون. ولهم فوق اللذائذ التأهيل والتكريم: {سلام}. يتلقونه من ربهم الكريم: {قولًا من رب رحيم}.فأما الآخرون فلا يطوي السياق موقف حسابهم، بل يعرضه ويبرز فيه التبكيت والتنكيل:{وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين}. اهـ.
وقد نُكِسَ الرّجلُ نُكْسًا فهو مَنْكُوسٌ.والنَّاكس: المُطَأْطِئ رأَسَه، وجُمع في الشِعْر على نَواكسِ، وهو شاذٌّ.ونَكَس كذا داءَ المريضِ بعد البُرْءِ، أي رَدَّه وأَعادَه، قال ذو الرُمَّة: والنُّكُسُ بالضَمّ المُدْرَهِمُّون من الشيوخ بعد الهَرَم.والنِكْس بالكسر: الضعيف، والسّهمُ يُنْكَسِرُ فُوقُهُ فيُجْعل أَعلاه أَسفله. اهـ.
وفي بعض الأخبار المرويةِ المُسْنَدَةِ أنَّ عَبْدًا تشهد عليه أعضاؤه بالزَّلَّةَ فيتطاير شَعره من جفن عينيه، فيستأذن بالشهادة له فيقول الحق: تكلمي يا شعرة جَفْنِ عبدي واحتَجِّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادي منادٍ: هذا عتيقُ الله بِشَعْرَة.{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}.يَرُدُّه إذا استوى شبابُه وقُوَّتُه إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر في السن فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف. ثم لا يَبْقَى بعد النقصان شيءٌ، كما قيل: هذا في الجثث والمباني دون الأحوال والمعاني؛ فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حَدَّ الخَرَفِ فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه. وأهل الحقائق تشيب ذوائبُهم ولكنَّ محابَّهم ومعانيَهم في عنفوان شبابها، وطراوة جدَّتها. اهـ.
وقال آخر: يقال: ربع الجيش يربعه إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الأصمعي: ربع في الجاهلية وخمس في الإسلام.وقوله: اليوم أنساك كما نسيتني أي اليوم أتركك في العذاب كما تركت عبادتي ومعرفتي.فإن قيل: فهل يلقى الكافر ربه ويسأله؟ قلنا: نعم بدليل ما ذكرنا. وقد قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم} في أحد التأويلين وقال: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} وقال: {أولئك يعرضون على ربهم} وقال وعرضوا على ربك صفًا الآيتين. وقال: {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} وقال: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} إلى قوله {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} والآي في هذا المعنى كثير.فإن قيل: قد قال الله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} وقال عليه السلام: «ويخرج عنق من النار فيقول: وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وكل من جعل مع الله إلهًا آخر وبالمصورين».قلنا: هذا يحتمل أن يكون يكون بعد الوزن والحساب وتطاير الكتب في اليمين والشمال وتعظيم الخلق كما تقدم ويدل عليه قوله: وبالمصورين فإنهم كانوا موحدين فلابد لهم من سؤال وحساب وبعده يكونون أشد الناس عذابًا، وإن كانوا كافرين مشركين فيكون ذكرهم تكرارًا في الكلام على أنا نقول:قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى الحساب جملة وجاءت الأخبار بذلك، وفي بعضها ما يدل على أن كثيرًا من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب، فصار الناس إذًا ثلاث فرق: فرقة لايحاسبون أصلًا، وفرقة تحاسب حسابًا يسيرًا، وهما من المؤمنين، وفرقة تحاسب حسابًا شديدًا يكون منها مسلم وكافر، وإذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله فيدخله النار بغير حساب.
|